دراسات
إسلامية
بقلم : الدكتور
عبد المجيد المدني (*)
الحمد
لله الذي أنزل القرآن، وجعله إماماً ونورًا وهدًى ورحمةً للعالمين، والصلاة
والسّلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه الأخيار، وعلى كل مَن أحب سنته مِن
السلف والخلف وبعد:
فأخي
القارئَ! محور هذا المقال سبعة.
الأول: قول الله
تبارك وتعالى عن القرآن الكريم «وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ»(1).
وقوله:
«وَلَوْ جَعَلْنَاهُ
قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ»(2).
والثاني:
قول بعض العلماء: إن بالقرآن ما
يزيد عن 275 كلمة أعجمية، أيْ غير عربية مأخوذة من لغات أخرى(3).
والثالث:
سؤال نقدي ممن في قلبه مرض، كيف يكون القرآن مع وجود هذه الكلمات الأعجمية منزّلاً
بلسان عربي مبين؟!
والرابع: الاعتقاد بأن القرآن يتسم بالكمال، وهو قديم موجود قبل تطور الكلمات
الأعجمية. فلا دور للكلمات الدخيلة فيه.
والخامس:
كيد بعض المستشرقين لرد أكثر الكلمات في القرآن الكريم حتى قرآن، وآية، وسورة،
وغيرها من الكلمات إلى أصل أعجمي(4).
والسادس:
قضية التعريب، وظاهرة التلاقح والتفاعل بين اللغات.
والسابع:
الإعجاز اللغوي والمعنوي من ألف إلى ياء للقرآن الكريم، وقول الله عزّ وجل: إِنَّا
نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحٰفِظُونَ(5).
وقوله:
قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا
الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا(6).
وحقاً،
هذه محاولة متواضعة لاتباع المحكمات بعد
الجَمْع بين الآراء، وردّ الشبهات عن
ذلك الكتاب لا ريبَ فيه هدى للمتقين،
وجدالُ أعداءِ الله بالتي هي أحسن، وبأدلةٍ قاطعة أخرى تُثبِت سقوطَ دعْوى الأعداء
من الداخل والخارج، وتُشير إلى تهافتهم؛
بل إلى تهافت تهافتهم ، وبالله التوفيق.
فالواقع أن هناك آياتٍ قرآنيةً عديدةً تؤكد
أنه: قرآن بلسان عربي مبين، منها:
(1) [سورة يوسف12: 2] «إِنا أَنْزَلْنٰه قُرْآناً
عَرَبِيَّا لَعَلَّكُمْ تعقلون».
(2) [سورة طه 20:
113] «وَكَذٰلِكَ أَنْزَلْنٰه قُرْآناً عَرَبِيًّا ..»
(3) [سورة الزمر 39: 28 ] «قُرْآناً عَرَبِيَّا غَيْرَ ذِيْ
عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُوْن».
(4) [سورة فصلت 41: 3] «كِتٰبٌ فُصِّلَتْ آيَاتُه،
قُرْآناً عَرَبِيَّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُوْن».
(5) [سورة الشورى 42: 7] «وَكَذٰلِكَ أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ القُرىٰ وَمَنْ حَوْلَها»
(6) [سورة الزخرف 43: 3] «إِنَّا جَعَلْنَاه قُرْآناً
عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُوْن».
(7) [سورة الأحقاف 46: 12] «وَهٰذَا كِتٰبٌ مُصَدِّقٌ
لِسَاناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِيْنَ ظَلَمُوْا ..»
(8) [سورة الشعراء 26: 193و195] «نَزَلَ بِهِ الرُّوْحُ
الْأَمِيْن .. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِيْنٍ».
ومع ذلك قال بعض المفسرين الأوائل بوجود عدد
كبير من الكلمات الدخيلة (الأعجمية) في القرآن، وجاء في الأثر أن «ابن عباس» كان
يُبدي اهتماماً خاصاً برصد أصولها وتحديد معانيها. خصص
السيوطي فصلاً في كتابه
«الإتقان»(7) للكلمات التي ليست بلغة الحجاز وفصلاً للكلمات التي ليست
بلغة العرب(8).
وقد
أورد في «الإتقان» مئات الألفاظ التي وردت في القرآن بغير لغة الحجاز، ومنها لغات
اليمن وغيرها،
وقد ذكر ابن النقيب في «خصائص القرآن» أن
القرآن احتوى على جميع لغات العرب، وأُنزل فيه
شيء كثير
بلغات غيرهم من الروم والفرس والحبشة .
وتورد دائرة المعارف الإسلامية أمثلةً، ذكرها
«السيوطي» عن العناصر الدخيلة في ألفاظ القرآن إذ قال: «الكلمات التي تعتبر غير
عربية على الإطلاق ومن المحال ردها إلى جذور عربية مثل:
1ـ إستبرق
2ـ الزنجبيل.
3ـ الفردوس.
وظهر في العالم الإسلامي، مبدأ يقول: إن
القرآن قديم ويتسم بالكمال، واتجه عدد من الفقهاء وعلماء الإلهيات، مثل الإمام
الشافعي ومن سار على
دربه إلى الاعتقاد بأن لغة القرآن
عربية نقية، وأنكروا وجود أية كلمات مستعارة من لغات أخرى.
وانتهز الأعداء الفرصة، وحاولوا ليوسوسوا في
صدور الناس.. رفعوا أسئلةً كثيرةً منها: كيف يكون القرآن بلسان عربي مبين....؟ وقد
تضمن كلمات أعجميةً كثيرةً؛ من فارسية، وسريانية، وعبرية، ويونانية، وحبشية،
وهندية، وغيرها من أمثال الكلمات: أباريق، إبراهيم، إستبرق، إنجيل، توراة، زنجبيل،
سجيل، طاغوت، عدن، فرعون، فردوس، ماعون، مشكاة، ونحو ذلك من الكلمات.
ولم يقفوا
هنا؛ بل اعتدوا وراء ذلك، فجاءوا ببهتان مبين، فقال المستشرق الألماني شفالي ومن
سار على دربه من المستشرقين: إن في القرآن كلماتٍ منحدرةً من المصادر النصرانية
السريانية، معتمدين على مخطوطة سريانية من القرن السادس الموجودة بالمتحف
البريطاني. وهي المصادر التي لا يمكن لأحد أن يأتي
بدليل على ظهورها وتأثيرها عند نزول القرآن الكريم .ويهدفون بهذا البحث المتعسف أن يبين أن هناك
اتصالاً وثيقاً بين القرآن الكريم والمصادر المذكورة، وأن هذا الاتصال إنـما يبدأ
بكلمة «القرآن» وهي كلمة مأخوذة من السريانية.
معاذ
الله، جَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ، ولكنْ حُجَّتهُمْ
بأسرها دَاحِضَةٌ، ويُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ وَالله
مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ.
ومن
الحقائق التاريخية، والأدلةِ العقلية، أن العرب الذين عاصروا نزول القرآن، وعارضوا
دعوة الإسلام، لم يُعرف منهم، ولم يُنقل عنهم أنهم نفوا عن تلك الألفاظ أن تكون ألفاظًا
عربيةً، وهم كانوا أولى من غيرهم في نفي ذلك لو كان، وهم أجدر أن يعلموا ما فيه من
كلمات أعجمية لا يفهمونها، أو ليست من نسيج لسانهم العربي المبين؛ ولكنهم شهدوا
بإعجازه وقاموا متحجرين أمام حلاوة القرآن وطلاوته.
وأما
والإعارة والاستعارة ، الاشتقاق والإدراج، والأخذ والرد فأمر مألوف ومشهود بين اللغات، وسنة ثابتة من
سنن الاجتماع البشري، وضرورة من ضروريات اللغة التي تتبدل، و تتغير بتغير الأحوال
والأزمان.
وكذلك ظاهرة التعريب في كلام العرب ظاهرة مقررة عند
أهل العربية، والتعريب ليس أخذًا للكلمة من اللغات الأخرى كما هي، ووضعها في اللغة
العربية؛ بل التعريب هو أن تصاغ اللفظة الأعجمية بالوزن العربي، فتصبح عربيةً بعد
وضعها على أوزان الألفاظ العربية، أو - حسب تعبير أهل العربية - وضعها على تفعيلة
من تفعيلات اللغة العربية.
وعلى
أساس قضية التعريب وظاهرة التلاقح والتفاعل بين اللغات يمكن القول: إن الألفاظ
القرآنية، والتي قيل عنها: إنها أعجمية، أكثرها من باب الأسماء والأعلام؛ وقد
اتفقت كلمة علماء اللغات قديمًا وحديثًا، أن أسماء الأعلام إنما تُنقل من لغة إلى
أخرى كما هي، ولا يخرج اللغة التي نُقلت إليها تلك الأسماء عن أصلها وفصلها الذي
اشتهرت به.
وفي
ضوء هذه الحقيقة يمكن القول إن اشتمال القرآن على أمثال هذه الكلمات، لا يُخرجه عن
كونه لساناً عربياً مبيناً؛ لأن هذه الألفاظ قد عُرِّبت، فصارت كلماتٍ عربيةً،
فيكون القرآن مشتملاً على ألفاظ معرَّبة، لا على ألفاظ غير عربية؛ فاللفظ المعرَّب
عربي، كاللفظ الذي وضعته العرب، سواء بسواء.
وهناك
حقيقة اعتقادية، لا يماري فيها اثنان، إن الله تبارك وتعالى خلق آدم، وعلّمه
الأسماء كلّها، وعلّمه البيان. ومن اعتقدنا أيضاً أن اللغة العربية هي اللغة
المنطوقة بين أهل الجنة، وأبونا آدم تكلم بها في الجنة، وتكلم بها بعد خروجه من
الجنة، فأصل كل اللغات ترجع إلى العربية كما يعود حسب الشعوب ونسب القبائل كله إلى
أب وأم .
واختتاماً لهذا المقال، نركّز العناية على
تفسير الآية «وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ» أجمع المفسرون على معنى ذلك
«أَيْ أنّ القرآن أَفْصَح مَا يَكُون مِنْ الْعَرَبِيَّة»، فلا ولنْ يشاهدَ العالم
إلى يوم القيامة ما يـُقرأ في العربية من كتب أو سور أو من آيات
تماثل الفرقان لغةً وبياناً
وأسلوباً وغيرَها من وجوه الإعجاز نثرًا كان أو نظماً، لإَِنْ
اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ على إتيانها، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ ظَهِيرًا، وهو محفوظ إلى أبد
الآباد شاهدًا ومشهودًا لقول الله تعالى «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ
وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ».اللهم اجعل هذا القرآن ربيع قلوبنا وشفاءً وتبياناً
لكل شيء، ولك الحمد والشكر في الأول والآخر.
* * *
الهوامش:
(1) سورة
النحل 16: 103
(2) سورة
فصلت 44
(3) دائرة
المعارف الإسلامية
(4) المستشرق
الألماني شفالي
في كتابه تاريخ القرآن
(5) سورة الحجر-9
(6) سورة الإسراء- 88
(7) ج1
ص133 ـ135
(8) ج1
ص 135ـ141
(*) محاضر في قسم اللغة العربية كلية مهاراجاس،
ارىاكولم.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، جمادى الأولى – جمادى الثانية 1433 هـ
= أبريل - مايو 2012م ، العدد : 5 - 6 ، السنة : 36